الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنَّ معرفة الشيء على حقيقته سَبَبٌ للاهتمام به، وإنزالهِ في المكانة اللائقة به، والتعاملِ معه بالطريقة التي تحقق الاستفادة القصوى منه، وعَكْسُ ذلك تكون نتيجة الجهل بالشيء، فإنها تبعث على إهماله في أقل تقدير، أو إساءة التعامل معه، وربما يَحْمِلُ الجهلُ به وعدم وضوح الرؤية بشأنه على معاداته.
وينطبق هذا الكلام على القرآن الكريم، كلام الله رب العالمين، الذي أنزله الله تعالى هداية للبشرية، وهو أوسع الكتب انتشاراً بأيدي المسلمين، وإنَّ تقديسه في نفوس المؤمنين قد لا يكفي لإنزاله المنزلة اللائقة به، وقد لا يُحْسِنُ المَرْءُ التعامل معه أو الاستفادة منه، وقد تَبْعَثُ الأوهامُ أو الشُّبُهَاتُ التي تُثَارُ حوله على معاداتهِ، والحرمانِ من فضله وبركاته، كما هو الحال في موقف كثير من غير المؤمنين به، لا سيما في زماننا الذي طَغَتْ فيه وسائل التواصل الحديثة، وٱقْتَحَمَتْ على الناس أسوار نفوسهم وعقولهم، وكَشَفَتْ عن خصوصياتهم، وعَرَّضَتْهُم للتأثر بما يُنْشَرُ أو يُقَالُ، من شُبُهَاتٍ وأباطيلَ.
ومن هنا جاءت فكرة تأليف كتاب مختصر في علوم القرآن الكريم وتاريخ المصحف الشريف، لِيِتِزِوَّدَ منه جمهور القراء من المسلمين بالمعرفة الصحيحة عن أصل القرآن، ومبدئه، وتاريخ تدوينه وكيفية قراءته، وعن فضله وفضائل آياته وسوره، وكيفيةِ فَهْمِ معانيه وتفسيره وتدبر آياته، فَيُحْسِنُوا التعامل معه، والإفادة منه، وَلِيُحَصِّنُوا أنفسهم وعقولهم من غائلة الشبهات التي يطلقها شياطين الإنس من حين لآخر، وهم يُرَدِّدُونَ ما كان يَتَشَدَّقُ به مشركو قريش وقت تنزيل القرآن، وٱنْضَافَ إلى ذلك ما ٱسْتَجَدَّ من شبهات في مسيرة القرآن الكريم عبر القرون، وهي شبهات لا تصمد أمام البحث العلمي النزيه، ولا التاريخ المُوَثَّقِ للقرآن الكريم.
وقد كَتَبْتُ هذا الكتاب ليخاطب غير المتخصصين من المؤمنين به وبرسالته، ممن لم تَسْمَحْ لهم ظروف حياتهم من الاطلاع على تفاصيل علوم القرآن الكريم وتاريخ المصحف الشريف، وهم مؤمنون بالقرآن شغوفون به، لكنَّ عَدَمَ معرفتهم بعلومه وتاريخه المعرفةَ الوافيةَ قد يترك أثراً سلبياً في طريقة تعاملهم معه، وهؤلاء هم جمهور المسلمين وأكثريتهم، أما المتخصصون فقد يكون تخصصهم قد أَوْقَفَهُمْ على تفاصيل موضوعات هذا الكتاب، وأغناهم عن الرجوع إليه.
وليست المعرفة حِكْراً على فئة من الناس دون فئة، لا سيما إذا كانت تلك المعرفة تعنيهم وتؤثر في حياتهم، ومن ثم فإنَّ هذا الكتاب قد يستفيد منه كل باحث عن الحقيقة، راغب في الوقوف على تاريخ القرآن الكريم، حتى وإن كان لا يؤمن بربانيته، ولا يعرف إلا القليل عن رسالته، فلعل الله أن يفتح له باباً نافعاً من العلم، ويدخل من خلاله إلى عالم القرآن الرحيب، وأن يكون ذلك سبباً للعيش في ظلاله حياة جديدة، والحياة في ظلال القرآن تُبَارِكُ العُمُرَ وتُطَهِّرُهُ وتُزَكِّيهِ.
ويتألف الكتاب من ستة فصول، هي:
الفصل الأول: مدخل إلى علوم القرآن الكريم، ويتضمن تعريفاً بالقرآن الكريم وعلومه، وأشهر المؤلفات فيه.
الفصل الثاني: فضائل القرآن الكريم، وآداب تلاوته.
الفصل الثالث: تنزيل القرآن الكريم، ويتضمن تعريفاً بالوحي، وكيفية تنزيل القرآن وتلقي النبي e له من جبريل. ويتضمن هذا الفصل أيضاً تعريفاً بأسباب النزول، وبالمكي والمدني من آيات القرآن.
الفصل الرابع: تدوين القرآن الكريم، ويتضمن الحديث عن كتابة القرآن الكريم في زمن النبي e مُفَرَّقاً في الرقاع، وجَمْعِهِ في الصحف في خلافة أبي بكر الصديق t، ونَسْخِ الصحف في المصاحف وتوزيعها على الأمصار الإسلامية في خلافة عثمان بن عفان t، وتَطَرَّقَ الفصل إلى الحديث بإيجاز عن موضوع تطور شكل المصحف منذ أول ظهوره إلى عصرنا الحاضر.
الفصل الخامس: الأحرف السبعة والقراءات القرآنية، ويتضمن التعريف برخصة الأحرف السبعة، وعلاقتها بنشأة القراءات القرآنية، وتوضيح أصل القراءات السبع، وعلاقتها بالأحرف السبعة، والإشارة إلى علم التجويد وعلاقته بقراءة القرآن الكريم.
الفصل السادس: تفسير القرآن الكريم، والعلوم المتعلقة به، ويتضمن بيان معنى التفسير والتأويل، ونشأة علم التفسير وتطور التأليف فيه، والإشارة إلى مناهج المفسرين، وأشهر كتب التفسير، ويتضمن الفصل أيضاً الإشارة إلى عدد من العلوم أو المعارف المتعلقة به، ومنها: المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وتدبر القرآن، وقصص القرآن، وإعجاز القرآن، وترجمة معانيه.
ولا نَدَّعِي أنَّ كتابنا هذا قد أحاط بالموضوع من جميع أطرافه، فالهدف الذي نسعى إلى تحقيقه من خلال هذا الكتاب هو تعريف القارئ غير المتخصص بالمعلومات الأساسية المتعلقة بالقرآن الكريم، ومن ثم جاء مختصراً وسميناه لذلك بالكتاب المختصر، وإذا رَغِبَ القارئ في التوسع وأَسْعَفَهُ وَقْتُهُ وهِمَّتُهُ بذلك فقد وضعنا قائمة بالمصادر الأساسية التي استقينا منها مادة الكتاب (في ملحق إلكتروني)، يمكن الرجوع إليها، ويمكنه الإفادة من كتابنا الآخر الموسع: (محاضرات في علوم القرآن الكريم) الذي سيصدر قريباً في طبعة جديدة، من مكتبة الرشد في الرياض، إن شاء الله تعالى.
والكتاب المختصر مدعوم بملاحق إلكترونية تتضمن اختباراً ذاتياً يُصَحَّحُ إلكترونياً، ومعه أيضاً تسجيل صوتي لنص الكتاب.
ونرجو من الله أن يبارك في هذا الكتاب وما ستلحقه من منتجات وبرامج تُسْهِمُ في تعريف عامة المسلمين بالقرآن الكريم وتاريخ المصحف الشريف.
كَتَبَهُ
د. غانم قدوري الحمد
في12/7/1443هـ