الحمدُ للهِ ، وسلامٌ على عباده الذين ﭐصْطَفَى
أما بعد :
فالحمد لله رب العالمين ، الذي يَسَّرَ لي كتابة هذا الكتاب ، بعد كثيرٍ من الانتظار ، وتقليبٍ للنظر في موضوعه وخطته ، وتَرَدُّدٍ في الإقدام على كتابته ، بالنظر لخطورة موضوعه ، وعظم النتائج التي كنت أرجو تحقيقها من وراء إنجازه ، ومرت السنوات ، وأخذتْ عوارض تَقَدُّمِ العمر تُعِيقُ عن تحقيق كثير من الأعمال ، وكنتُ أَعُدُّ كتابة هذا الكتاب دَيْناً في عنقي ، وسألتُ الله أن يعينني على الوفاء به ، فهو نتيجة لأعمالي العلمية ، وفحوى بحوثي السابقة وخلاصتها ، فالحمد لله الذي يَسَّرَ وأعان على الانتهاء منه.
ولا أكتمك أيها القارئ الكريم أني أشعر أنَّ ما كتبته لا يرقى إلى ما كنتُ أرجوه ، وأطمح إليه ، ولكني وجدتُ أن كتابة الكتاب بالصورة التي بين يديك خير من التأجيل ، أو خير من التخلي عنه جملة وتفصيلاً ، وآمل أن ما كتبته يحقق بعض الهدف الذي سعيتُ إليه من تأليف الكتاب ، وهو إبراز أصالة النص القرآني ، وإلقاء مزيد من الضوء على الموضوعات المتصلة بتأريخ النص الشريف ، وإزالة بعض الشبهات التي قد تعترض الدارس لتاريخ القرآن.
بَيَّنْتُ في التمهيد منهجي في تأليف الكتاب ، ويتلخص في التركيز على ما له علاقة مباشرة بتأكيد أصالة النص القرآني ، وعدم الدخول في تفصيلات موضوعات علوم القرآن التي لا تدخل بشكل مباشر في موضوعه ، وأيضاً عدم تتبع الشبهات التي أثارها بعض الدارسين من المستشرقين وغيرهم حول جوانب معينة من تاريخ القرآن ، واكتفيت بالإشارة إلى بعضٍ منها في هوامش النص ، عندما أجد ذلك ضرورياً أو مفيداً ، لثقتي بأن بيان التاريخ الصحيح للقرآن الكريم بحسب رواية المصادر الإسلامية كفيل بإزالة الشبهات عند من يبحث عن الحقيقة ويؤمن بها.
وألزمت نفسي وأنا أكتب الكتاب ألا يكون جمعاً لفصولٍ من كتب ألفتها ، أو بحوث كتبتها من قبل ، وحرصت على إعادة صياغة المادة بما يتناسب والهدف من تأليف الكتاب ، ومن ثم فإني آمل ألا ينزعج القارئ من تكرار بعض الأفكار التي كنت ذكرتها في ما كتبت في مؤلفاتي السابقة في علوم القرآن الكريم ، فأصل هذا الكتاب هو نتيجة علمية وعملية لبحوثي التي كتبتها من قبل ، ولكن بعرض جديد ، لتحقيق هدف معين ، وهو تأكيد أصالة النص القرآني.
وتناولت في الفصل الأول من الكتاب البحث عن مصدر القرآن ، وعَرَضْتُ أهم معالم حياة النبي محمد r قبل البعثة ، وأشرت إلى خُلُوِّهَا من أي مظهر من ظاهر الدعوة الجديدة ، ثم تحدثت عن إرهاصات النبوة من سماع صوت ورؤية ضوء لم يعهدهما من قبل ، وسلامِ الحَجَرِ عليه ، ثم الرؤيا الصادقة والميل للخلوة التي انتهت ببدء نزول القرآن ، وتوقفتُ عند فتور الوحي ودلالاته ، وحفظ النبي r للقرآن الذي ينزل به جبريل عليه.
وخَصَصْتُ مظاهر الوحي الخفية والحسية بمبحث مستقل ، لأهمية هذا الموضوع في فهم كيفية تلقي النبي r للقرآن ، فالجانب الخفي من الوحي بَيَّنَهُ رسول الله r لأصحابه حين سألوه عنه ، والجانب المحسوس من آثار الوحي وَصَفَهُ الصحابة الذين شهدوا التنزيل مرات كثيرة ، وتتميز ظاهرة الوحي بجانبيها الخفي والمحسوس عن حالة النوم ، أو حالة الإغماء المرضية التي تعترض بعض الناس ، إنها حالة فريدة ومتميزة ، إنها السكينة التي تغشى النبي r بشكل مفاجئ ، وتنجلي عنه كذلك ، ويتلو بعدها ما نَزَلَ عليه من القرآن على أصحابه.
وكان رسول الله r حريصاً على التمييز بين القرآن الكريم المُنَزَّلِ عليه ، وبين حديثه الشريف ، فكان يأمر بكتابة القرآن الكريم ، ويُعَلِّمُهُ لأصحابه ، ويتلوه في الصلاة ، والسُّنَّةُ المُشَرَّفَةُ وإن كانت في معناها وحياً أيضاً إلا أنها صياغة نبوية ، بينما القرآن الكريم وَحْيٌ إلهِيٌّ ، لفظاً ومعنىً.
وتناولت في الفصل الثاني تدوين القرآن الكريم ، بدءاً من كتابته بين يدي النبي r ، إذ لم يكن يتأخر التدوين عن زمن التنزيل ، فقد كان رسول الله r كلما نزل عليه الوحي يدعو من يكتب له ما نزل عليه من الوحي في الرقاع ، مع المراجعة والتدقيق للمكتوب ، فَكُتِبَ القرآن كله في زمنه r ، لكنه كان مفرقاً في الرقاع ، ثم جُمِعَتِ الرقاع في صحف منظمة ، في خلافة أبي بكر الصديق ، ونُسِخَتِ الصحف في المصاحف ، في خلافة عثمان بن عفان ، وتوحدت المصاحف التي بأيدي المسلمين ، رسماً وترتيباً.
ويُشَكِّلُ الرسم العثماني مَعْلَماً مُهِمّاً في الدلالة على أصالة النص القرآني ، فقد حافظ المسلمون على ذلك الرسم وهم يكتبون المصاحف ، بما فيه من ظواهر الحذف والزيادة والبدل ، ودَرَسَهُ علماء القرآن ، وأَلَّفُوا كتباً في وصفه ، ومِثْلُ ذلك آلاف المصاحف المخطوطة التي يرجع كثير منها إلى القرن الهجري الأول ، وهي تتطابق مع مصاحفنا اليوم المخطوطة والمطبوعة ، وفي ذلك أعظم دليل على الحفظ المُوَثَّقِ للقرآن الكريم ، الذي مضى على كتابته الأولى خمسة عشر قرناً ، ولم تُؤَدِّ تلك القرون بما صاحبها من تقلبات وصعوبات وحروب ونكسات إلى تغيير شيء من نص القرآن الكريم ، فالقارئ في المصحف اليوم يقرأ وهو مطمئن إلى أنه يقرأ القرآن الذي نزل به جبريل على قلب النبي r ، وكَتَبَهُ كُتَّاب الوحي في الرقاع وفي الصحف والمصاحف.
وتناولت في الفصل الثالث لغة القرآن الكريم ، لأن ثمة بعض القضايا التي ناقشها علماء السلف رحمهم الله تتعلق بها ، ولأن بعض الباحثين المحدثين أثاروا شبهات قد تؤثر في نفوس بعض من غابت عنهم تفاصيل تاريخ القرآن الكريم ، ومن البديهي القول إن القرآن منزل باللغة العربية ، لكن هناك من يقول بإن القرآن أنزل بلغة قريش من العرب خاصة ، وهناك من يقول بأنه نزل بلغات العرب ، أو باللغة الأدبية المشتركة التي تَصَوَّرَ وجودها بعض الدارسين المحدثين.
وقد ترجح عندي ، وعند كثيرين غيري ، أن القرآن الكريم أنزل بلغة قريش ، بحسب شهادة كبار الصاحبة الذين عاصروا التنزيل ، وبدلالة الشواهد التاريخية واللغوية ، وفي مقدمتها رسم المصحف الذي يمثل وثيقة لغوية شاهدة على ذلك ، ومع نزول القرآن الكريم بلغة قريش فإن رخصة الأحرف السبعة قد يَسَّرَتْ للعرب جميعاً قراءة القرآن من غير صعوبات لغوية تحول بينهم وبين قراءته.
ولا يُسْتَغْرَبُ التصريح من بعض المستشرقين بآراءٍ غريبةٍ على القارئ المسلم تتعلق بتاريخ القرآن ، مثل قول المستشرق كارل فوللرز بأن القرآن الكريم كُتِبَ أولاً بلغة محلية ، ثم أُعِيدَت صياغته وفق قواعد العربية الفصحى بعد القرن الثاني ، وردد هذه المقولة جون وانسبرو بعد قرن من الزمان تقريباً ، وقد كشف الفحص الكاربوني لعدد من المصاحف المخطوطة القديمة بطلان تلك المقولة ، فأثبت أنَّ مِن المصاحف ما يرجع إلى القرن الهجري الأول ، وإلى وقت نسخ المصاحف العثمانية ، قبل عصر النحاة الذين نسبوا إليهم زوراً وبهتاناً إعادة صياغة نص القرآن الكريم ، فبطلت هذه المقولة من أساسها ، وبطل ما انبنى عليها من دعاوى باطلة.
إن نزول القرآن الكريم باللغة العربية كان سبباً في حيويتها ، وثباتها في وجه عواما التغير والتطور ، فبقيت حية منذ خمسة عشر قرناً من الزمان ، يقرؤها الصغير والكبير والعربي والأعجمي ، في حالة فريدة في تاريخ اللغات ، وكان القرآن الكريم إلى جانب ذلك سبباً في ثراء ألفاظها وتنوع أساليبها ، فالقرآن هو المعجزة العظمى للنبي r ، وأبرز وجوه إعجازه نظمه البديع الذي أعجز الفصحاء عن الإتيان بمثله ، وفي مقابل ذلك فإن فهم معاني القرآن الكريم يتوقف على معرفة كلام العرب وقواعد لغتهم ، ولا بد لقارئ القرآن اليوم من أن تكون لديه ثقافة لغوية مناسبة لفهم معاني القرآن وتدبر آياته.
وﭐخْتَصَّ الفصل الرابع من الكتاب بالحديث عن قراءة القرآن الكريم ، ويرتبط بها علم القراءات الذي يُعْنَى ببيان وجوه اختلاف أئمة القراءة في نطق كلمات من القرآن الكريم ، وعلم التجويد الذي يعنى بتصحيح النطق ، وضبط مخارج الحروف وصفاتها.
تَحَدَّثْتُ في هذا الفصل عن نشأة القراءات القرآنية ، في ظل رخصة الأحرف السبعة ، ورَبَطتُ بين القراءات السبع أو العشر المشهورة في زماننا ، وقراءات الصحابة ، وبَيَّنْتُ كيف تحولت القراءات من النسبة إلى علماء القراءة من الصحابة (مثل: أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن مسعود ...) ، إلى علماء القراءة من تابعي التابعين (مثل : عاصم ، ونافع ، وابن كثير ...) ، بتأثير ظاهرة الاختيار في القراءة ، لكن ذلك التحول لم يغير شيئاً من أصول القراءات أو فروعها ، فقراءتنا للقرآن الكريم اليوم هي عين قراءة الصحابة y له.
وتَحَدَّثْتُ أيضاً في هذا الفصل عن أحكام التجويد ، وقَوَّيْتُ الاحتجاج بالتلقي الشفهي على أصالة تلك الأحكام في قراءة القرآن ، بالاحتجاج ببعض ظواهر الرسم العثماني على أصالة عدد من ظواهر التجويد في قراءة الصحابة الذي كتبوا المصاحف ، وانعكس ذلك على طريقة كتابتهم لها في المصحف ، مثل الإدغام ، والترقيق والتفخيم ، والمد والقصر ، بما لا يدع مجلاً للشك في أصالة تلك الظواهر.
هذا ملخص ما قمت به في هذا الكتاب ، وما توصلت إليه من نتائج ، وهي ليست جديدة في جملتها ، لكنها لا تخلو من إضافات تعزز الأدلة على أصالة النص القرآني : وحياً ، ورسماً ، ولغة ، وقراءة ، والحمد لله رب العالمين ، وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب ، وأن يكون سبباً للتمسك بالقرآن ، والإقبال على تلاوته ، والاهتداء بهديه ، اللهم آمين.
*****
وأنت أيها القارئ الكريم ، هل وجدتَ ما توقعتَ أن تجده في الكتاب ، بعد أن وَقَعَتْ عيناك على عنوانه ، ثم نظرت في مقدمته أو فهرست موضوعاته؟ أرجو أنك وجدت شيئاً جديداً فيه ، سواء كنت على بَيِّنَةٍ مما ورد في الكتاب ، قبل أن تنظر فيه ، مؤمناً بأصالة النص القرآني وموثوقيته ، بحفظ الله تعالى له ، أو لم تكن على بينة من جميع ذلك ، فوجدتَ في الكتاب ما زادك معرفة وبصيرة بتاريخ القرآن ، وقَوَّى في نفسك أصالة هذا الكتاب الكريم ، ورجوعه بكليته إلى مصدره الإلهي ، وحياً من الله تعالى إلى قلب النبي r ، وإملاءً له في القراطيس والرقاع من لفظ النبي r إلى أقلام كُتَّابِ الوحي الذين كتبوه مفرقاً في الرقاع ، ثم مجموعاً في الصحف ، ثم منسوخاً في المصاحف ، محفوظاً نصه تستنير به البشرية إلى يوم الدين.
أما إذا كنت أيها القارئ ممن مازج الشكُّ في أصالة النص القرآني الكريم قلوبَهم ، أو حَجَبَتْ ظلمات الشبهات عن قلبك أنوار الحقائق ، وحالت بينك وبين الإيمان به ، ولم تجد في كتابي هذا ما يدفع عنك تلك الشكوك أو يزيل عنك تلك الشبهات ، فأتمنى أن تتأنى ، وأن تتأمل في تاريخ هذا القرآن ، وتنظر في سيرة حامله إلى البشرية ، وما تركه فيها من آثار ، وأن تقرأ فيه من جديد قراءة تكشف لك عن معانيه ، وتُعَرِّفُكَ به على حقيقته ، من غير أحكام مسبقة أو تأويلات بعيدة ، لعلك تحظى من خلال ذلك ببركته ، وتنزاح عنك تلك الحجب التي حالت بينك وبينه ، وتسعد بالهداية التي جاء بها ، وتنجو من مهاوى الرَّدَى التي تنتظر كل من كَذَّبَ به ولم يؤمن برسالته ، والله تعالى ولي التوفيق ، والهادي إلى سواء السبيل.
(ربنا لا تزغ قلوبنا ، بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب)
القسم:
حديث الشهر
التاريخ:
12 سبتمبر
2019
لايوجد تعليقات