الحمدُ للهِ ، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمدٍ رسولِ الله ، أَمَّا بَعْدُ :
فإنَّ من الكتب ما يثير دهشة القارئ ، بأسلوبه وصياغته ، وبمادته العلمية وريادته في موضوعه ، فَتُحِسُّ بأنك تكتشف فيه جديداً كلما نظرت فيه ، فتظل معلق الفكر به ، تعاود القراءة فيه ، وتجتني من فوائده ، ويرتبط ذلك التميز بعوامل متعددة، منها : العصرُ الذي كُتِبَ فيه ، والعالِمُ الذي كَتَبَهُ ، والمادَّةُ العلمية التي تضمنها ، وأسلوب المؤلف فيه.
وقد اطلعتُ في الآونة الأخيرة على كتاب (معاني القرآن وتفسير مشكل إعرابه) لأبي علي محمد بن المستنير ، المُلَقَّبِ بِقُطْرُبٍ ، البصري ، المُتَوَفَّى في الربع الأول من القرن الثالث الهجري ، وهو من أشهر تلامذة سيبويه ، بتحقيق الدكتور محمد لقريز ، في أطروحته للدكتوراه ، التي قدَّمها في كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية في جامعة الحاج لخضر باتنة ، في الجزائر (2015/2016م).
وقد لفت نظري موضوع الكتاب ، وأثارت مادته دهشتي ، فعلى الرغم من أن الكتاب لم يَبْقَ إلا نِصْفُهُ ، من أول المصحف إلى أول سورة مريم ، مع فوت قليل من أوله ، فإنه نَصٌّ ممتاز يرجع إلى عصر الإبداع العلمي ، والتأسيس لعلوم القرآن ، والفقه ، واللغة ، والتاريخ ، وغيرها من العلوم.
وقد أحسن المحقق في الدراسة ، وفي خدمة النص ، على الرغم من أنه اعتمد على نسخة خطية واحدة ، لكنها نسخة متقنة قديمة ، وهي مكتوبة بخط متطور نحو الليونة ، مشكولٍ ومنقوطٍ ، بخط علي بن عمر الكرجي ، انتهى من كتابتها سنة 355هـ ، وهي مقابلة وعليها سماعات ، وهي من رواية أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن سعيد الدمشقي المتوفَّى سنة 306هـ.
وهذه صورة العنوان لأحد أجزاء المخطوطة :
وهذه صورة خاتمة الجزء الثاني من تجزئة المخطوطة ، وفيها اسم الناسخ وتأريخ الفراغ من النسخ ، وهو يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الأول سنة 355هـ ، وتاريخ قراءة النسخة ، وهو يوم الجمعة لسبع خلون من رجب من السنة نفسها:
ولست بصدد تقديم دراسة عن الكتاب ، فقد كفانا ذلك محققه جزاه الله تعالى خيراً ، ولكني أردتُّ أنْ أَلْفِتَ نظر الدارسين لعلوم القرآن إليه ، خاصة علم القراءات وتوجيهها ، فقد تحدَّث قُطْرُبٌ في الكتاب عن ثلاثة أمور : القراءات القرآنية وتوجيهها ، وبيان معاني الكلمات والآيات ، وإعراب ما أشكل من كلمات القرآن ، شأنه في ذلك شأن المؤلفين في كتب معاني القرآن ، وقد يكون حديثه عن القراءات القرآنية أكثر أهمية من الجوانب الأخرى ، فقد ذكر المؤلف قراءات كل سورة في أول الحديث عنها ، في باب مستقل ، وقد يذكر توجيه القراءة معها ، وهذه بداية ذكر قراءات سورة البقرة :
واستغرق ذكر قراءات سورة البقرة وتوجيهها سبعاً وأربعين صحيفة (234-281) ، وذَكَرَ فيها أسماء ما يقرب من خمسة وثلاثين قارئاً ، من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وقال محقق الكتاب (ص 99) : « وحَجْمُ هذا الفصل ، أعني فصل القراءات من كل سورة ، لو جُمِعَ بكل سورة فإنه سَيُشَكِّلُ كتاباً مستقلاً في توجيهِ القراءات ، وهو يأخذ ثُلُثَ الكتاب تقريباً».
وقد يكون ما ذكره قطرب من قراءات في الكتاب أَقْدَمَ ما وصل إلينا من نصوص القراءات ، وهذا يعطي الكتاب مكانة متميزة في تاريخ القراءات القرآنية ، فهو على الرغم من عدم ذكره للأسانيد يُصَرِّحُ بأسماء القراء في أغلب المواضع ، ولم يميز في ذكره للقراء بين السبعة أو العشرة ، لأنَّ هذا المصطلح لم يكن قد ظهر في تلك الحقبة ، بل إنه لم يذكر قراءة الكسائي ، وخلف ، ويعقوب ، لعدم اشتهارها في زمانه بَعْدُ ، على ما يبدو ، كما رجَّح المحقق (ص 898).
والعثور على الكتاب في مكتبة زاوية علي بن عمر ، بطولقة التابعة لولاية بسكرة في جنوب الجزائر ، يبعث الأمل في العثور على كثير مما نفتقده من كتب التراث العربي الإسلامي ، خاصة المؤلفات القديمة ، في زوايا المكتبات الخاصة ، والمكتبات النائية التي لم يُكْتَشَفْ ما فيها بعد ، ولم يُسَلَّطِ الضوء على كنوزها المخطوطة ، وعسى أن نُفَاجَأَ يوماً بالعثور على مخطوطة كتاب القراءات لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) ، أو غيره من كتب القراءات التي سبقت عصر ابن مجاهد.
وقد كتبتُ هذه الكلمة لِلَفْتِ أنظار الباحثين المهتمين بتاريخ القراءات القرآنية ومعاني القرآن وإعرابه إلى هذا الكتاب ، للاستمتاع بالقراءة فيه ، والإفادة منه ، ويَسُرُّنِي توجيهُ التحية والشكر للدكتور محمد لقريز الذي حَقَّقَ الكتاب ، عسى أن يُعَجِّلَ بطباعته ونشره ، جزاه الله تعالى كل خير.
هذا ، والله تعالى ولي التوفيق.