الحمدُ للهِ الذي بتوفيقه تُنْجَزُ الأعمال ، وبنعمته تَتِمُّ الصالحات ، الحمد الله الذي يَسَّرَ لي سبل البحث والكتابة حتى أنجزتُ هذا الكتاب ، القديم بمادته ، الجديد في منهجه وطريقة تناوله ، وقد يكون أول كتاب يربط بين دراسة المصاحف المخطوطة وعدد من علوم القرآن التي لها جانب تطبيقي في المصاحف ذاتها ، فَكَشَفَ عن بعض ما فيها من غموض ، وأوضح بعض ما فيها من إشكال ، وزاد فيها مسائل لم تكن مدرجة في موضوعات تلك العلوم.
كانت الرحلة من خلال هذا الكتاب مع عشرات المصاحف والأجزاء ، قد يكون بعضها مما كتبه الصحابة رضوان الله عليهم ، وقد يكون بعضها مما كتبه التابعون ، رحمهم الله تعالى ، وقد يكون بعضها مما كتبه كبار الخطاطين ، وزَيَّنَهُ كبار الفنانين والمزخرفين ، قد يكون بعضها مما اختلسته أيدٍ غير أمينة ليذهب بعيداً عن مواطنه لقاء ثمن بخس دراهم معدودة ، ثم عاد أدراجه إلى ربوعه الأولى عبر أدوات التصوير الحديثة ، وعبر وسائل التواصل السريعة ، التي قَرَّبَتِ المسافات ، وأزالت الحواجز ، فيا لها من رحلة عجيبة ممتعة !
جاء هذا الكتاب في تمهيد أبان عن أهمية المصاحف المخطوطة والجوانب التي تربطها بعلوم القرآن ، وما يمكن أن تقدِّمه في دراسة هذه العلوم ، والخطوط العريضة التي قامت عليها فصول هذا الكتاب.
وتضمن الفصل الأول الحديث عن رسم المصحف ، والتعريف بأهم مسائله ، والإشارة إلى أشهر المؤلفات فيه ، ثم بيان حكم الالتزام به في كتابة المصاحف ، والوقوف عند مسألة كونه اجتهاداً من الصحابة رضوان الله عليهم أو توقيفاً من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الجانب التطبيقي الخاص بعلم الرسم تطرق البحث إلى مدى التزام المصاحف المخطوطة بالرسم العثماني ، وكَشَفَ عن اتجاه بعض كُتَّابِ المصاحف لاستعمال الرسم القياسي فيها ، وفي مقابل ذلك استمرار حرص كثير منهم على المحافظة على استعمال الرسم العثماني في كتابة المصاحف.
وتبين من خلال النظر في مصادر الرسم وفي المصاحف المخطوطة وجود تنوع في ظواهر الرسم ، وتعدد في القواعد التي تحكم تلك الظواهر ، لكن ذلك لم يؤثر في وحدة النص القرآني.
وكشف النظر في المصاحف المخطوطة التي ترجع إلى القرون المبكرة الأولى عن وجود ظواهر كتابية كانت مشهورة في تلك الفترة ، لكن مصادر الرسم وصفتها بالضعف أو الشذوذ ، ومن ثم تَرَكَ كُتَّابُ المصاحف استعمالها ، ومن تلك الظواهر: زيادة الياء في رسم كلمة (بآية) و(بآيات) ، إذا دخلت عليها الباء ، وكذلك زيادة الياء في كلمة (فبأي) ، وزيادة الألف بعد واو (ذو) ، وزيادتها بعد الشين في كلمة (شيء).
إن دراسة هذه الظواهر النادرة من خلال المصاحف المخطوطة يمكن أن يُغَيِّرَ الموقف منها ، فزيادة الياء في كلمة (بآية) وما تفرَّع منها ، وزيادة الألف بعد واو (ذو) ، وقبل الياء في كلمة (شيء) ، تبدو ظواهر شائعة في المصاحف المخطوطة ، خاصة المصاحف القديمة التي ترجع إلى القرون الهجرية الأولى ، قبل أن تظهر مؤلفات الرسم المشهورة التي صارت مرجعاً لكتابة المصاحف.
والتوصل إلى هذه النتيجة لا يعني الدعوة إلى تغيير الرسم الذي تُرْسَمُ به المصاحف التي تُطْبَعُ في زماننا ، وإنما يمكن أن تُسْتَخْدَمَ في تأصيل هذه الظواهر ، ونفي احتمال الخطأ عنها.
وتناول الفصل الثاني علم النقط والشكل ، أو علم الضبط ، من خلال التعريف بنشأة هذا العلم ، والإشارة إلى أشهر المؤلفات فيه ، ثم الحديث عن العلامات ذات الدلالة الصوتية من خلال المصادر والمصاحف ، والعلامات ذات الدلالة التمييزية ، من خلال المصادر والمصاحف أيضاً.
وكَشَفَ النظر في المصاحف المخطوطة عن مذاهب كُتَّاب المصاحف في استعمال العلامات الكتابية : التمييزية وذات الدلالة الصوتية ، والاتجاهات المختارة في المصاحف في مختلف العصور ، سواء في ذلك علامات النقط المدور التي زالت من الاستعمال منذ القرن الرابع أو الخامس ، أو علامات النقط المستطيل التي لا تزال هي المعتمدة في ضبط المصاحف ، والمستعملة في الكتابة العربية في غيرها ، الخاصة بالحركات الثلاث ، والتنوين ، والسكون ، والشدة ، والهمزة ، والمدة.
وأظهر النظر في المصاحف المخطوطة شيوع استعمال الصفر المستدير علامةً للسكون أكثر من استعمال رأس الخاء التي صارت هي المعتمدة الآن في ضبط المصاحف المطبوعة في بلدان المشرق خاصة ، وكذلك كَشَفَ النظر فيها عن استعمال الدال الذي هو آخر كلمة (شديد) علامة للتشديد في بعض المصاحف المبكرة ، لكن الذي شاع استعماله هو رأس الشين من أول كلمة (شديد).
وكذلك أظهر النظر في المصاحف المخطوطة شيوع مذهب القراء في موضع الهمزة من الحروف الثلاثة: الواو والياء والألف ، قبلها أو فيها أو بعدها ، في المصاحف المتأخرة ، وفي المصاحف المطبوعة اليوم ، واندثار مذهب النحويين الذي تعددت ألقابه وتعقدت طريقة تطبيقه.
وكذلك كشف النظر في المصاحف المخطوطة شيوع علامات الرقم الخاصة بالحروف السبعة المخلاة (ح ، ع ، س ، ر ، د ، ط ، ص) في ضبط المصاحف منذ القرن الرابع الهجري ، لكن تلك العلامات زالت من الاستعمال تدريجياً ، حتى لم يبق لها أثر في المصاحف المطبوعة اليوم.
واستقر نظام نقاط الإعجام في المصاحف المتأخرة والمطبوعة وفي الكتابة العربية على إعجام القاف باثنتين والفاء بواحدة ، من فوق ، في بلدان المشرق العربي ، وإعجام القاف بواحدة من فوق والفاء بواحدة من تحت ، في بلدان المغرب العربي ، بدلاً من نقط القاف بواحدة من تحت ، والفاء بواحدة من فوق ، كما ظهر ذلك في عدد من المصاحف المخطوطة المبكرة.
وتناول الفصل الثالث علم العدد القرآني ، من خلال المصادر والمصاحف ، وتضمن التعريف بعلم العدد ، ومذاهب العادِّين ، وبيان الأسس التي قام عليها العد ، وأشهر المؤلفات فيه ، وجهود علماء العدد وكُتَّاب المصاحف في تيسير الأمر على من يرغب في الوقوف على عدد الآي في المصحف من خلال استعمال نظام الخموس والعشور ، ومن خلال استعمال حساب الجُمَّل في الدلالة على الأعداد ، وقد زال ذلك النظام في المصاحف المطبوعة الآن ، بعد استعمال الأرقام ووضعها عند رؤوس الآيات.
وتبين من خلال النظر في المصاحف المخطوطة تطور أشكال فواتح السور ، من فراغ قدر سطر ، إلى خطوط تشبه السلسلة ، وإلى شكل مزخرف خال من الكتابة ، ثم وضع اسم السورة وعدد آيها في داخل ذلك الشكل.
وكَشَفَ النظر في المصاحف المخطوطة التي ترجع إلى عصور متعددة حجم الجهود التي بذلها علماء العدد وكُتَّاب المصاحف في تجزئة المصحف إلى أجزاء ، بحسب اعتبارات متعددة ، حتى استقر الأمر على تجزئته على ثلاثين جزءاً ، وكل جزء يُقَسَّمُ على حزبين ، وكل حزب يُقَسَّمُ على أربعة أرباع ، مع ملاحظة حاجة بعض الأرباع إلى مراجعة بداياتها ونهاياتها ، لتأتي على نسق متقارب مع غيرها.
وتضمن الفصل الرابع الحديث عن القراءات القرآنية ، من خلال التعريف بأصلها ، وطُرُقِ روايتها ، واشتهار السبعة والعشرة منها ، وبيان أركان القراءة الصحيحة ، وتعريف القراءة الشاذة ، وعلاقة القراءات القرآنية بتدوين القرآن الكريم في مراحله الثلاث ، وذلك تمهيداً للنظر في كيفية تمثيل القراءات القرآنية في المصاحف المخطوطة.
وكَشَفَ النظر في المصاحف المخطوطة عن وجود عدد من القضايا المتعلقة بالقراءات القرآنية فيها ، منها صعوبة الحديث عن القراءات في المصاحف المجردة من العلامات ، وعلى نحو أخف في المصاحف المنقوطة بنقط الإعراب ، ومنها عدم انطباق القراءات السبع أو العشر على القراءات في المصاحف المخطوطة التي ترجع إلى ما قبل عصر ابن مجاهد ، لتمثيلها اختيارات كان يُقْرَأُ بها ، ثم اندثرت بعد اختيار ابن مجاهد القراءات السبع.
وأظهر النظر في المصاحف المخطوطة الحاجة إلى دراسات وافية للقراءات القرآنية في جميع المصاحف المخطوطة للوقوف على طبيعة تلك القراءات ، واكتشاف حجم انتشار كل قراءة ، مكاناً وزماناً ، لتهيئة مادة تسهم في عمل أطلس القراءات القرآنية.
وتبين لي من خلال تتبع القراءات في عدد من المصاحف المخطوطة مقدار الجهد الكبير الذي يحتاجه وصف القراءة في كل مصحف مخطوط ، وما يستلزمه من وقت ، ومن جهد ، ولم يكن حمزة بن حبيب الزيات مبالغاً حين قال وهو يتتبع رسوم المصحف ، ويَعُدُّ حروفه :" نظرتُ في المصحف ، حتى خشيتُ أن يذهب بصري"، فالنظر في المصاحف المخطوطة لاستكشاف ما فيها من قراءات ، أو رسوم ، أو ضبط أو عَدٍّ ، يحتاج إلى نظر طويل ، ودقيق ، ولا يقوى على ذلك إلا الشباب من الباحثين ، أو المصابرون من الشيوخ الذين يستهويهم ذلك العمل الذي يجعلهم يعيشون مع القرآن ، وهم يكابدون ضعف أنظارهم ، ويصبرون على آلام فقارهم ، والله تعالى وليهم ومعينهم.
وتناول الفصل الخامس علم الوقف والابتداء ، من خلال التعريف بأصول هذا العلم ، ومذاهب العلماء في حصر أقسام الوقوف ، والرموز الدالة عليها ، وتتبع ظهور علامات الوقوف في المصاحف ، سواء كانت من الرموز التي تمثل مذهب مَن قَسَّمَ الوقوف على أربعة أقسام ، أو ستة أقسام ، وما استقر عليه العمل في المصاحف المطبوعة في زماننا.
وأظهر النظر في المصاحف المخطوطة شيوع رموز المدرسة الأولى ، وهي : (ت ، ك ، ح) ، في مصاحف القرون الإسلامية الوسيطة ، ثم شيوع رموز المدرسة الثانية التي وضع أصولها محمد بن طيفور السجاوندي ، وهي : (م ، ط ، ج ، ز ، ص ، ق ، لا) في مصاحف القرون المتأخرة ، وفي المصاحف المعاصرة.
* * * * *
وعلى الرغم من أن الكِتَاب قد مر على جميع العلوم التي لها جانب تطبيقي في المصحف ، فإن ذلك المرور كان سريعاً ، ومحطاته محدودة ، وما قدَّمه البحث نتيجة لذلك ما هو إلا مفاتيح تعين في الدخول إلى ساحات ذلك العالم الرحيب الممتد عبر القرون ، والمتمثل بآلاف المصاحف المخطوطة.
وكنت أختم جميع أعمالي المتعلقة برسم المصحف ، أو المتعلقة بالمصاحف المخطوطة ، بالتوصية بضرورة الاعتناء بالنصوص القديمة ، وفي مقدمتها المصاحف المخطوطة ، وتسهيل وصول الباحثين إليها ، وتشجيع البحث العلمي حولها ، وأود في خاتمة هذا الكتاب إعادة التأكيد على هذه التوصية ، فلا تزال الأعمال العلمية المتعلقة بالمصاحف المخطوطة فردية ، يقوم بها أفراد إمكانياتهم محدودة ، وجهودهم غير منسقة ، وهناك حاجة لعمل مؤسسي ينهض بتلك المهمة التي هي دَيْنٌ على الأمة قصَّرت طويلاً في سداده والوفاء به.
وأُضِيفُ إلى تلك التوصية التي كررتها كثيراً توصية أخرى أظهرت التطورات العلمية الحاصلة في العالم الحاجة إليها ، وهي : أن يكون لنا مشروع خاص يخدم المصاحف المخطوطة ويستند إليها ، ويخدم تاريخ القرآن ويمهد لتدوين فصوله ، فليس من المعقول ولا من المقبول أن يكون لغيرنا مشروعهم الخاص تجاه القرآن والمصاحف المخطوطة ، وهم يواصلون العمل بكل جد ، متذرعين بكل الوسائل التي يتيحها التقدم العلمي ، كالحوسبة ، والتصوير الرقمي ، والفحص الكاربوني ، ويبشرون بأنهم سوف يخرجون للعالم عند الانتهاء من مشروعهم نسخة نقدية للقرآن الكريم بزعمهم !
وإذا كنا معاشر المسلمين مطمئنين إلى أن القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله تعالى ، وأن البحوث العلمية الجادة سوف تُعَزِّزُ من ذلك الاطمئنان ، وليس ثمة قلق في أن يؤدي البحث العلمي إلى زعزعة ذلك اليقين ، بل إنه سوف يزيده ويرسخه ، فإن الواجب الديني والعلمي يقتضي أن نبذل أقصى الجهود ، وأن نستثمر كل الطاقات ، ونُسَخِّرَ جميع الإمكانيات ، لخدمة القرآن الكريم ، على جميع الأصعدة ، المتعلقة بتلاوته ، وكتابته ، وطباعته ، وتفسيره ، والحفاظ على مخطوطاته ، ودراستها ، واكتشاف مضامينها ، وتسخير نتائج تلك الدراسات في تعزيز مكانة القرآن الكريم في نفوس المؤمنين وتعظيم قدره ، ليتخذوه منهاج حياة لهم ، ودعوة البشرية إليه ، فهي لا تزال بحاجة إلى من ينقذها مما تعاني منه من آثار الانحراف عن الفطرة السوية ، وهو قادر على أن يكون دليلها إلى السعادة الدنيوية والأخروية ، مهما حاول أعداؤه حجب أنواره عنها ، إذا ما أحسن أهله وحاملوه إيصال رسالته إليهم.
والله تعالى ولي التوفيق ، والهادي إلى سواء السبيل.
القسم:
حديث الشهر
التاريخ:
29 أكتوبر
2017
لايوجد تعليقات