الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحابته أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد
فإن الأخبار عن كتابة القرآن الكريم في مكة في صدر البعثة النبوية وقبل الهجرة شحيحة جداً ، بعكس ما كانت عليه في المدينة بعد الهجرة ، وعلى الرغم من اتفاق جمهور المؤرخين والعلماء بالقرآن من المسلمين على أن القرآن الكريم كُتِبَ كله في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، مفرقاً في الرقاع ، فإن أخبار كتابته في مكة ظلت قاصرة عن الإجابة عن عدد من الأسئلة المتعلقة بالموضوع ، وفي مقدمتها : هل نُقِلَتِ الرقاع التي كُتِبَ عليها القرآن في مكة إلى المدينة حين هاجر إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
وتخلو كتب علوم القرآن الكريم القديمة والمعاصرة من أي نص يحمل الإجابة على ذلك السؤال الذي لا يبرح عقول الباحثين في تاريخ كتابة القرآن الكريم في العصر النبوي بعامة ، وتاريخ كتابته قبل البعثة بخاصة ، وقد عثرتُ على رواية تشير إلى نقل الرقاع التي كُتِبَ عليها القرآن الكريم في مكة قبل الهجرة إلى المدينة ، ونظراً لأهمية هذه الرواية وتَطَلُّعِ الباحثين إلى ما يلقي الضوء على هذا الموضوع كتبتُ هذا المقالة لعرض تلك الرواية ، والوقوف على دلالاتها ، حتى تكتمل معالم تاريخ كتابة القرآن الكريم في هذه الحقبة.
وجاءت تلك الرواية في الترجمة التي كتبها ابن حجر العسقلاني للصحابي رافع بن مالك الزُرَقِيِّ ، رضي الله عنه ، في كتاب (الإصابة في تمييز الصحابة) ، وسوف أنقل نص الرواية أولاً ، ثم أحاول الوقوف عند مضامينها ، وهي ( 2/ 369 ) :
« رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيْقٍ ، الأنصاريُّ الزُّرَقِيُّ شَهِدَ العقبة، وكان أحد النقباء ... وكان أول مَن أسلم من الخزرج ...
وحكى ابن إسحاق أن رافع بن مالك أول مَن قدم المدينة بسورة يوسف.
وروى الزُّبير بن بكَّار في أخبار المدينة عن عمر بن حنظلة أن مسجد بني زُرَيْقٍ أولُ مسجد قُرِئَ فيه القرآن، وأنَّ رافع بن مالك لَمَّا لَقِيَ رسول اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلَّم - بالعقبة أعطاه ما أُنْزِلَ عليه في العشر سنين التي خَلَتْ، فَقَدِمَ به رافعٌ المدينة، ثم جَمَعَ قومه فَقَرَأَ عليهم في مَوضِعَه».
وجاءت في المصادر الأخرى معلومات توضح بعض جوانب شخصية رافع ، من المفيد اقتطاف بعض النصوص منها ، قبل الوقوف عند خبر نقل الرقاع إلى المدينة ، من ذلك ما ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 218 ) : « أن رافع بن مالك الزرقي ومعاذ بن عفراء خَرَجَا إلى مكة معتمرين، فَذُكِرَ لهما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيَاهُ ، فعرض عليهما الإسلام فأسلما، فكانا أَوَّلَ من أسلم، وقَدِمَا المدينة، فأول مسجد قُرِئَ فيه القرآن بالمدينة مسجد بني زُرَيْقٍ».
وقال ابن سعد أيضاً (3/ 596):" وكان رافع بن مالك أحد النقباء الاثني عشر، شهد العقبة مع السبعين من الأنصار..".
وجاء في تاريخ مكة المشرفة ، لابن الضياء العمري المتوفى سنة 854هـ عند الحديث عن بعض مساجد المدينة (ص 306) : «مسجد بني زريق من الخزرج، وهو أول مسجد قرئ فيه القرآن بالمدينة، قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رافع بن مالك الزرقي رضي الله عنه لمَّا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة أعطاه ما نزل عليه من القرآن بمكة إلى ليلة العقبة».
وذكر ابن شبة في تاريخ المدينة (ص 130): أن رافع بن مالك الزرقي قُتِلَ بأحد، فَدُفِنَ في بني زريق، وقيل: إن موضع قبره في دار آل نوفل بن مساحق التي في بني زريق التي في كُتَّاب عروة ، وذلك قبل أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن قتلى أحد حيث قتلوا. وذَكَرَ (ص 253) أن كُتَّاب عروة كان في بني زريق ، وعروة هذا رجل من اليمن، كان يُعَلِّمُ، وفي كُتَّاب عروة مسجد بني زريق، وعنده دار رفاعة بن رافع.
وقال السمهودي (1/ 163) : «وكان يقال لرافع بن مالك (الكامل)، لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون لمن كان كاتباً شاعراً الكامل».
ويطول الحديث بتقصي أخبار رافع بن مالك الزرقي ، وأخبار أولاده : رِفَاعة ، وخَلَّاد ، بما لا يتناسب وطبيعة هذه المقالة ، وسوف أكتفي بما نقلته من أخباره ، ويمكن أن نستخلص منها مجموعة أمور ، منها :
1. كان رافع بن مالك الزرقي أحد السبعين الذين شهدوا بيعة العقبة ، وكان أحد النقباء الاثني عشر ، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل عليه من القرآن في مكة ، لينقله إلى المدينة ، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا مكتوباً، وخصه رسول الله بذلك لكونه كان كاتباً.
2. بَنَى رافع عند عودته إلى المدينة مسجداً في منازل قومه بني زريق ، كان يُعَلِّمُ فيه القرآن ، وهو أول مسجد قرئ فيه القرآن في المدينة ، كما يقول ابن إسحاق.
3. لم يكن لرافع دَوْرٌ واضح في كتابة القرآن الكريم في المدينة ، ولم يُذْكَرْ ضمن كتبة الوحي ، لسببين : لتطرف منزله في المدينة ، ولاستشهاده المبكر في معركة أحد ، ولولا ذلك لكان له شأن في تدوين القرآن ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدَّر موهبته في الكتابة ، وحمَّله أمانة إيصال الرقاع إلى المدينة.
4. يبدو أن مسجد بني زريق الذي جلس فيه رافع يُعَلِّمُ القرآن بعد عودته من بيعة العقبة قد تأسست فيه وحوله مدرسة للتعليم ، خلفه فيها رجل من أهل اليمن ، يقال له عروة ، اشتهر بالتعليم ، حتى عُرِفَ المكان باسمه ، فكان يقال له كُتَّاب عروة.
5. في قصة نقل رافع للرقاع من مكة إلى المدينة دلالة واضحة على أن القرآن الكريم كُتِبَ في مكة ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حريصاً على المحافظة على الرقاع التي كُتِبَ فيها القرآن ، فقام بتسليمها ليلة العقبة إلى رافع الزرقي لينقلها إلى المدينة.
6. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعاهد الرقاع التي كُتِبَ فيها القرآن وهو في المدينة ، كما يدل على ذلك حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نُؤَلِّفَ القرآن من الرِّقَاع (أخرجه الحاكم)، ولعل الرقاع التي نقلها رافع من مكة إلى المدينة كانت من ضمنها ، ولعلها كانت أيضاً عند زيد بن ثابت حين جمع القرآن في خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -.
وأكتفي بهذا القدر من التعليق على قصة نقل الرقاع التي كُتِبَ فيها القرآن الكريم من مكة إلى المدينة ، والموضوع يستحق بحثاً مستقلاً ، ولكني أحببت أن أُعَجِّلَ بنقل هذا الخبر إلى المهتمين بتاريخ كتابة القرآن الكريم.
وقد أحسن الباحث عبد الرحمن عمر محمد اسبينداري عندما ذكر رواية نقل رافع للرقاع (ص 99) في بحثه (كتابة القرآن الكريم في العهد المكي) ، لكنه لم يُطِلِ الوقوف عندها ، وله فضل السبق في الاستدلال بها في موضوع كتابة القرآن الكريم في مكة ، وكنتُ لفرحي بالوقوف على الرواية أُحَدِّثُ أخي الدكتور سالم قدوري عنها ، فذكر لي أنه وقف عليها من قبل في كتاب اسبينداري ، فرجعتُ إليه واطلعتُ عليها فيه ، والحمد لله رب العالمين ، وعيدكم مبارك ، وكل عام وأنتم بخير.
القسم:
حديث الشهر
التاريخ:
03 سبتمبر
2017
لايوجد تعليقات