بسمِ اللهِ ، والحمدُ للهِ ، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمد رسول الله
أما بعد
فقد كنت أنظر في عدد من المصاحف المخطوطة والمطبوعة ، للوقوف على مدى التزام تلك المصاحف بالرسم العثماني ، ووجدتُ أن المصاحف القديمة أكثر التزاماً به من المصاحف المتأخرة ، ومن أعجب ما وقفتُ عليه أَنَّ بعض الخطاطين الأتراك المتأخرين الذين اشتهر عنهم كتابة المصاحف بالرسم القياسي قد كَتَبَ مصحفاً بالرسم العثماني ، وجعلني ذلك أكتب هذه المقالة للتعرف على هذا الخطاط ، وللتعريف بذلك المصحف.
أما الخطاط فهو
نوري حافظ عثمان المشتهر بقايش زاده ، الذي وُلِدَ في بلدة بُوردُور ، ونُسِبَ إليها ، فقيل : البُوردُوري ، وانتقل بعد إتمامه التعليم الأولي إلى إستانبول لتحصيل العلوم الدينية ، وتَعَلَّمَ فن الخط ، وأَخَذَ إجازة بخط الثلث والنسخ من الخطاط مصطفى عزت أفندي ، وأمضى حياته في كتابة المصاحف ، فكَتَبَ مئة وستة مصاحف ، وتوفي راكعاً في أثناء صلاة التراويح في الرابع من شهر رمضان سنة 1311هـ ، الموافق للحادي عشر من آذار من سنة 1894م
[1]، وكان – رحمه الله تعالى - قد وصل في كتابة المصحف السابع بعد المئة إلى الآية الثانية عشرة من سورة يوسف
[2].
وبقي عدد من المصاحف التي كتبها الخطاط نوري حافظ عثمان ، منها مصحفان محفوظان في مكتبة جامعة مشجان في أمريكا ، الأول برقم (172) ، وهو المصحف التاسع والتسعين من المصاحف التي كتبها ، وهو بالرسم القياسي ، وأتمه سنة 1305هـ ، كما يظهر في صورة خاتمة المصحف هذه :
والمصحف الثاني هو المحفوظ في مكتبة جامعة مشجان برقم (173) ، وهو المصحف الثاني بعد المئة من المصاحف التي كتبها هذا الخطاط ، وأتم كتابته سنة 1309هـ ، وأكمل تذهيبه سنة 1313هـ الحاج أحمد من تلاميذ الحاج حسين ، كما يظهر في صورة خاتمة المصحف هذه :
وبعد النظر في صفحات المصحف والقراءة فيه وجدتُ أنه مكتوب بالرسم العثماني ، أي أن الخطاط التزم برسم الكلمات التي فيها زيادةٌ أو حذفٌ أو بدلٌ كما كُتِبَتْ في المصاحف العثمانية ، ويتبين ذلك بالنظر في سورة الفاتحة وأول البقرة :
وجميع الكلمات ذات الرسم الخاص في هاتين الصحيفتين مرسوم بالرسم العثماني ، إلا كلمة (مالك) ، وقد يكون رَسْمُهَا بالألف سهواً من الكاتب ، فقد أظهر التزاماً كبيراً بخصائص الرسم العثماني في هذا المصحف ، وحَرَصَ على إثبات الكلمات التي فيها رسم مخصوص في حواشي الصفحات ، وأشار إلى ما فيه اختلاف في الرسم في كثير من المواضع ، بإثبات الألفات أو حذفها ، أو زيادة حرف ، أو فيه وصل أو فصل ، إلى جانب القراءات العشر التي أثبتها في هوامش صفحات المصحف ، وكذلك ما اخْتُلِفَ فيه من رؤوس الآي ، وتلك أمور تدل على معرفة بخصائص رسم المصحف ، وبالقراءات القرآنية ، ومذاهب أهل العدد ، وقد ورد ذكر السخاوي ، وهو مؤلف كتاب (الوسيلة إلى كشف العقيلة للشاطبي) في رسم المصحف ، في حاشية الصحيفة ، في تعليق على رسم كلمة ﭽ ﮀ ﭼ في سورة النحل [90] ونصه : (بحذف الألف على رأي السخاوي في مصحف الشامي).
وخُتِمَ المصحف بخاتمة في أسماء القراء العشرة وبيان مذاهبهم في أصول القراءات ، أتم كتابتها محمد خلوصي تلميذ الحاج محمد شوقي ، في المحرم من سنة 1310هـ.
وهذه صورة لصحيفة من المصحف ، من سورة البقرة (الآيات 238-245) ، وقد يكون رسم بعض الكلمات فيها لا يتطابق مع رسمها في مصحف المدينة ، لأنها قد تكون مما اخْتُلِفَ في رسمه بين المصاحف العثمانية :
ومن عجائب هذا المصحف أن صفحاته ينتهي آخرها بآخر الآية ، ويتطابق ترتيب صفحات مصحف المدينة النبوية الذي كتبه الخطاط عثمان طه مع هذا المصحف ، ولا يُعْرَفُ مبدعُ هذه الطريقة في كتابة المصحف هل هو الخطاط قايش زاده أو خطاط أقدم منه ، فتقرير ذلك يحتاج إلى نظر في كثير من المصاحف المخطوطة ، وهو ما لم يتيسر بعد.
وقد طُبِعَ بعض المصاحف المكتوبة بخط نوري حافظ عثمان ، لكن من النسخ التي لم يَلْتَزِمْ فيها بالرسم العثماني ، ولو كانت هذه النسخة من مصحفه التي التزم فيها بالرسم العثماني هي المعتمدة في الطباعة لكانت لذلك آثار طيبة على طباعة المصاحف في تركيا والبلدان الإسلامية الأخرى.
وكان نوري حافظ عثمان قد كَتَبَ مصحفه هذا سنة 1309هـ ، في الوقت الذي ظهر فيه المصحف المنسوب إلى المخللاتي في مصر ، الذي يُعَدُّ أول مصحف يُلْتَزَمُ فيه بالرسم العثماني في طباعة المصاحف في العصر الحديث ، فقد طُبِعَ بالمطبعة البهية في القاهرة سنة 1308هـ (1890م) ، وكتبه الخطاط عبد الخالق حقي المعروف بابن الخوجه ، مع مقدمة في الرسم والضبط وعدد الآي للشيخ رضوان بن محمد المخللاتي ، واشتهر بمصحف المخللاتي لتوليه الإشراف على طباعته كما جاء في خاتمته ، ثم ظهر بعد ذلك المصحف الأميري الذي ظهرت طبعته الأولى سنة 1342هـ.
ولا شك في أن هذه المقالة ليست كافية في التعريف بمصحف قايش زاده ، من حيث الرسمُ والضبطُ وعَدُّ الآيِ وعلاماتُ الوقوف والتجزئةُ والتحزيبُ والزخرفة ، ولكنها كافية للفت الأنظار إليه ، وتأكيد الحاجة إلى الاعتناء بالمصاحف المخطوطة من مختلف العصور ، لِمَا يترتب على ذلك من فوائد تتعلق بتاريخ المصحف ، وبالعلوم المرتبطة به ، والله تعالى ولي التوفيق.
________________________________________________________
[1] هذا هو المكتوب في ترجمته في الموسوعة الإسلامية ، لكن الرابع من رمضان يساوي العشرين من شهر آذار في برنامج مُحَوِّلِ التاريخ في موقع مركز تفسير ، والله أعلم.
[2] ينظر : الموسوعة الإسلامية ، إعداد وقف الديانة التركية 25/79-80 ، باللغة التركية ، وقد ترجم هذه المعلومات باختصار من الموسوعة صديقي الدكتور عمر آيشام ، جزاه الله خيراً.