السؤال: ما هي القراءة التي كان يقرأ بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صلاته ، وهو يؤم جمهور المسلمين؟ وهل كان يقرأ على حرف واحد معين؟ وهل هناك ما يُسَمَّى بقراءة الجمهور التي كان يقرأ بها الخلفاء الراشدون ؟ وهل جُمِعَتْ صحفُ الخليفة أبي بكر على حرف واحد أو قراءة واحدة ، وهل ما يُسَمَّى بالصُّحُفِ هو في حقيقته وجوهره مصحف واحد أم عدة مصاحف ، وهي التي نُسِخَتْ في عهد الخليفه عثمان ؟
الجواب: نزل القرآن الكريم بلسان قريش ، كما ورد ذلك في أحاديث صحيحة ، ولسان قريش يعني العربية السائدة في مكة وما حولها ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن بلسان قريش ويؤم المسلمين به ، وبعد أن انتشر الإسلام ، ودخل في الدين قبائل عربية من غير أهل مكة ، وكانت لغاتهم متباينة ، شق عليهم تلاوة القرآن بلسان قريش ، فجاءت رخصة الأحرف السبعة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسر منه)، فكان التميمي يهمز ، ويميل الألفات ، وكان الحجازي يسهل ويفتح الألفات ، وغير ذلك من وجوه النطق ، ومن ثم اختلفت قراءة الصحابة ، في ظل رخصة الأحرف السبعة.
وقد لا نجد إجابة محددة لبعض ما ورد في الأسئلة ، مثل القول بتضمن صحف أبي بكر الصديق للأحرف السبعة ، كما ذهب إلى ذلك بعض المؤلفين في علوم القرآن ، لكن يمكن القول إن الصحف تضمنت ألفاظ الوحي كما أملاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كتبة الوحي بلسان قريش ، ولم تدخلها آثار رخصة الأحرف السبعة ، واعتمد الصحابة في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على الصحف في نسخ المصاحف ، بعد أن وقع الخلاف في القراءة في الأمصار الإسلامية.
وسبق لي مناقشة أكثر جوانب هذا الموضوع في عدد من أعمالي السابقة ، ولعل ما ورد في البحث الأول من كتاب (الأجوبة العلمية عن أسئلة ملتقى أهل التفسير) يجيب بشكل أكثر تفصيلاً عما ورد في الأسئلة السابقة ، وهو متاح على الشبكة ، وفي كتابي (رسم المصحف) إشارات إليها أيضاً.
ومما يتعلق بما ورد في الأسئلة السابقة الحديث عن القراءة التي كان يقرأ بها رسول الله r والخلفاء الراشدون من بعده ، ولدينا رواية منقولة عن أحد معلمي القرآن من التابعين الذين أخذوا القراءة عن كبار القراء من الصحابة ، وهو أبو عبد الرحمن السلمي الذي حمل المصحف العثماني من المدينة إلى الكوفة ، قال فيها : (كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة ، كانوا يقرؤون قراءة العامة ، وهي القراءة التي قرأها رسول الله r على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه) [ينظر : المرشد الوجيز ص 68 ، والبرهان للزركشي 1/237].
ويبدو أن المقصود بقراءة العامة في هذه الرواية هو القراءة التي كانت مشهورة في مكة والمدينة ، والتي كان جمهور الصحابة يقرأ بها ، وإلى جانبها قراءات أخرى أنتجتها رخصة الأحرف السبعة ، أخذها التابعون عن الصحابة الذين كانوا يقرؤون بها ، وتكونت منها ومن قراءة العامة قراءاتُ القراء المشهورين في القرن الثاني والثالث ، من خلال ظاهرة الاختيار في القراءة ، واشتهروا باسم القراء السبعة على يد ابن مجاهد البغدادي المتوفى سنة 324هـ .
واستعمل مصطلح قراءة العامة بعد ذلك لدى المؤلفين في القراءات للدلالة على قراءة الجمهور في مقابل قراءة صحيحة منفردة أو قراءة شاذة ، قال علم الدين السخاوي في جمال القراء (ص 522) : (وإذا قالوا: قراءة العامة، فإنما يريدون: ما اتفق عليه أهل المدينة، وأهل الكوفة، فهو عندهم سبب قوي يوجب الاختيار، وربما اختاروا ما اجتمع عليه أهل الحرمين وسموه أيضاً بالعامة).
وكلمة (العامة) قد تطلق على العوام من الناس ، ذوي الثقافة المحدودة ، في مقابل (الخاصة) من أهل العلم والمعرفة باللغة وغيرها ، لكن عبارة (قراءة العامة) يقصد بها القراءة التي عليها جمهور القراء في كل عصر ، كما تقدم ، واستعملها ابن جني كثيراً في كتابه (المحتسب في تبيين شواذ القراءة) في مقابل القراءة الشاذة ، وكذلك فعل كثيرون غيره.
وخلاصة القول : أن قراءة القرآن الكريم سُنَّةٌ أخذها الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتلقاها التابعون عن الصحابة ، ثم مَن جاء بعدهم من الخلف ، والراجح أن رخصة الأحرف السبعة ، التي كانت سبباً لاختلاف القراءات ، لم تنعكس على كتابة القرآن الكريم ، فالقرآن نزل بلغة قريش ، وكُتِبَ بها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم جُمِعَ في الصحف ، ونُسِخَ في المصاحف ، على ذلك النحو ، وكانت كتابة المصاحف مجردة من النقاط والحركات ، فقرأ المسلمون من القراءات ما احتمله الخط ، وتركوا كل قراءة تخالف الخط ، مما كان يُقْرَأُ به في قبل نسخ المصاحف.
وقد يكون هذا الجواب وحده غير وافٍ أو غير شافٍ ، لمسائل كبيرة الأهمية تتعلق بقراءة القرآن وكتابة المصحف ، وعذري في الاختصار هنا أني سبق لي بحثها في عدد من الكتب والأبحاث التي يجدها القارئ في هذا الموقع ، أو في الشبكة ، أو يجد نسخاً ورقية منها.
فإن وَجَدَ الأخ السائل هذه الإجابة كافية ، فذلك هو المطلوب ، وإذا كان لا يزال يتطلع إلى التفصيلات فعليه أن ينظر في ما أشرت إليه من أبحاث ، لي أو لغيري في الموضوع ، فأحسب أنَّ ما كُتِبَ عن تلك المسائل كثير ، في القديم والحديث ، وقد جَلَّى العلماء رحمهم الله تلك المسائل ، وأزالوا ما علق في أذهان البعض عنها من شبهات أو تساؤلات ، عصمنا الله تعالى وإياكم من فتنة الشبهات ، ووقانا وإياكم من فتنة الشهوات ، وختم لي ولكم بالحسنى ، والله ولي التوفيق.
القسم:
إجابات
التاريخ:
19 أكتوبر
2016
لايوجد تعليقات