ذكر الأخ السائل أن بعض المشتغلين بعلم التجويد في بلاده يذهب إلى أَنَّ لأحكام التجويد أثراً في الدلالة ، ويضرب مثالاً لذلك بالمد في كلمة (فقراء) ، فهو يعتقد أَنَّ زيادة المد في الكلمة دليلٌ على زيادة الفقر لدى المتصفين به ، وسألني عن رأيي في ذلك.
وأقول في الجواب : إن علماء التجويد من المتقدمين والمتأخرين يُعَلِّلُونَ الأحكام الصوتية لموضوعات التجويد بعلل نطقية صوتية ، تتلخص في تسهيل عملية النطق ، والاقتصاد في المجهود ، من خلال التناسب الحاصل بين الأصوات المتجاورة ، سواء في ذلك : الإدغام ، والترقيق والتفخيم ، والإمالة ، وما أشبهها ، ولا يصعب على دارس التجويد إدراك ذلك والتمثيل له.
وينطبق ذلك على المد وأحكامه في النطق العربي ، فقد أجمع علماء العربية والتجويد على أن سبب المد الزائد في حروف المد وقوعها قبل همزة أو ساكن : مخفف أو مشدد ، وأضاف بعض علماء التجويد المتأخرين سبباً آخر للمد ، وهو السبب المعنوي ، فقالوا : السبب المقتضي لزيادة المد قسمان : لفظي ومعنوي ، فاللفظي وقوع حروف المد قبل همزة أو سكون ، والمعنوي : هو مد التعظيم قصد المبالغة في النفي...والسبب المعنوي أضعف من اللفظي ، إذا لم يعاضده سبب آخر كما في مثل : (لا إله إلا الله) [ينظر : النشر 1/344] ، وكلام علماء القراءة والتجويد منصب على أنواع المد المترتبة على السبب اللفظي.
ولابن جني الموصلي كلام في تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني ، ومعنى التصاقب : التقارب ، من ذلك (هَزَّ) و(أَزَّ) ، وأورد قوله تعالى : (تؤزهم أزا) [مريم 83] ، وقال :" أي: تُزْعِجُهُم وتُقْلِقُهُم, فهذا في معنى تَهُزُّهُم هزّاً, والهمزة أخت الهاء, فتقارَبَ اللفظانِ لتقارب المعنَيَيْنِ، وكأنهم خَصُّوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء, وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهزِّ" [الخصائص 2/ 148].
وأتى ابن جني بأمثلة أخرى للدلالة على تقارب الألفاظ لتقارب المعاني ، لكنه قال في خاتمة الباب :" وهذا النحو من الصنعة موجود في أكثر الكلام وفرش اللغة, وإنما بَقِيَ مَن يثيره ويبحث عن مكنونه, بل مَنْ إذا أُوضِحَ له وكُشِفَتْ عندَهُ حقيقتُهُ طاع طبعه لها فوعاها وتقبلها ، وهيهاتَ ذلك مطلباً , وعزَّ فيهم مذهباً! وقد قال أبو بكر [ابن السراج]: مَن عَرَفَ أَلِفَ, ومَن جَهِلَ اسْتَوْحَشَ" [الخصائص 2/ 154].
ولبعض المحدثين مباحث في الإعجاز الصوتي قائم على لمح التناسب الصوتي بين الكلمات القرآنية والسياقات الواردة فيها ، ولا شك في أن القرآن الكريم معجز في ألفاظه وأساليبه ، كما أنه معجز في معانيه وأحكامه ، وهو لا يَخْلَقُ على كثرة الرد ، ولا تَنْقَضِي عجائِبُهُ.
ولا يخفى على القارئ أن ما ذهب إليه ابن جني من تقارب الألفاظ لتقارب المعاني ، وما وَقَفَ عنده المحدثون من أنواع التناسب الصوتي في القرآن الكريم ، لا يتعلق بأحكام التجويد ، ولا يمكن الاستدلال به على أَنَّ لأحكام التجويد أثراً مباشراً في المعاني وتنوعها.
والجواب عن السؤال يَحْتَمِلُ كلاماً أطول من هذا ، لكني ذكرتُ خلاصة ما أعرفه عن الموضوع ، والله تعالى أعلم.
القسم:
إجابات
التاريخ:
23 أبريل
2016
لايوجد تعليقات