ذهب بعض الباحثين إلى أن علم التجويد في غنى عن استعمال أجهزة الصوت، وصَرَّحَ بعضهم أن استعمال الأجهزة في تحليل الظواهر الصوتية للقراءة القرآنية قد يثير إشكالات، ويتسبب في مشكلات، فيكون ضرره أكبر من نفعه، وتساءلوا : ماذا لو جاءت الأجهزة بما يتناقض مع ما جاءت به الرواية، أيهما نتبع الرواية أو الأجهزة، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يستحق إضاعة الوقت وصرف الأموال، وقد كفانا علماؤنا عن ذلك كله!
وهذا الموقف من استعمال أجهزة مختبر الصوت قد يكون نابعاً من عدم الإلمام بالعمليات التي تقوم بها تلك الأجهزة، والفوائد التي يمكن أن تحققها للدارسين للأصوات، وأثار ذلك في نفوس الرافضين للأجهزة شبهة التعارض بين ما يمكن أن تأتي به الأجهزة، وما تحقق في الرواية، وجعلني هذا الموقف أتحدث عن تلك الأجهزة في هذه الحلقة؛ لأن تخلفنا في استعمال تلك الأجهزة مظهر من مظاهر التخلف العلمي الذي يضرب أطنابه على بلداننا، وتفوت الباحثين والمعلمين والمتعلمين فوائد كثيرة من عدم توفر تلك الأجهزة .
ولا يخفى عليكم أن مختبرات الصوت نوعان : تعليمية ، وبحثية ، وقد تكون المختبرات التعليمية أكثر انتشاراً ، لكنها ليست مخصصة لتحليل الأصوات اللغوية، وإنما هي مخصصة لتعليم النطق الصحيح للغة العربية أو اللغات الأجنبية، وأحسب أن هذا النوع من الأجهزة ليس موضع تشكيك من أحد .
ولا أدري ما ضرر أجهزة مختبر الصوت البحثية التي يمكن أن تميز لنا بالصورة وبالخطوط البيانية الصوت المجهور من المهموس، والتي تقيس طول الصوت اللغوي بأجزاء الثانية، وتبين تفاوت الأصوات في الشدة، والدرجة ، وهذه الأجهزة جزء من منظومة أكبر تخدم اليوم أنشطة التعليم والاتصال والفيزياء والطب والعلوم الأخرى .
لست متخصصاً بشيء من هذه الأجهزة ، لكن ما كُتِبَ عنها يشير إلى أنها يمكن أن تقرب لدارس الأصوات فهم الظاهرة الصوتية فيزياوياً أو عضوياً ، ويمكن أن تسهم في حل المشكلات التي تواجه الباحثين في الأصوات ، بسبب تعقيد عملية إنتاج الأصوات وتغيرها من أدنى تغيير في شكل آلة النطق ، ويمكن التعرف على تلك الأجهزة من النظر في بعض كتب علم الأصوات اللغوية الحديثة ، مثل كتاب (أصوات اللغة) للدكتور عبد الرحمن أيوب ، و(دراسة الصوت اللغوي) للدكتور أحمد مختار عمر ، وتَحَدَّثَ الدكتور منصور بن محمد الغامدي في كتابه ( الصوتيات العربية ص175-187) عن تلك الأجهزة التي كان قد خبرها واستعملها في أبحاثه ، وسوف أقتصر على ذكر أهم تلك الأجهزة ودورها في عملية تحليل الصوت .
قال الدكتور الغامدي في الفصل الذي خصصه للحديث عن(أجهزة الأصواتيين) :" إن معظم الدراسات الأصواتية المعاصرة تقوم على استخدام أجهزة معقدة ومتطورة مما يعطي مصداقية للنتائج التي يصل إليها الأصواتي في دراساته ، وفيما يلي أسماء بعض الأجهزة الشائعة الاستخدام في فروع الصوتيات الثلاثة".
وتحدث عن أكثر من عشرة أجهزة ، اخترت ثلاثة منها للتعريف به هنا ، مع إضافة صورة لكل جهاز استخرجتها من شبكة المعلومات الدولية ( وهي أنواع كثيرة ) :
(1) منظار الحنجرة Laryngoscope
يتكون منظار الحنجرة الحديث من أنبوب مرن مصنوع من مادة ناقلة للأشعة الصوتية ، ينتهي أحد طرفيه بعدسة شيئية تكون متصلة في الغالب بآلة تصوير ، يتم إدخال الطرف الذي ينتهي بالعدسة الشيئية عبر إحدى فتحتي الأنف إلى التجويف الأنفي حتى تشرف على الحنجرة من خلف اللهاة ... ومن ميزات منظار الحنجرة أنه بإمكان الشخص الذي تقام عليه التجربة التحدث بصورة طبيعية ، إلى درجة كبيرة أثناء التجربة .
الحنجرة والحلق من أعضاء الجهاز الصوتي التي لا يمكن مشاهدتهما بالعين المجردة أثناء الكلام ، لذلك فإن منظار الحنجرة مفيد في تحديد الأعضاء التي تدخل في نطق الأصوات التي مخارجها من الحلق أو الحنجرة ، وهذا يفيد في دراسة مخارج أصوات كالعين والحاء والهمزة والهاء في اللغة العربية ، والتي لا تزال مخارجها وكيفية نطقها غير معروفة بشكل دقيق ، وهذه صورة لأحد أنواع منظار الحنجرة :
(2) راسم الذبذبات Oscilloscope
يقوم راسم الذبذبات بتحويل الطاقة الصوتية إلى طاقة كهربائية ، تعرض مع عامل الزمن على شاشة عرض صغيرة ، حيث تظهر التغييرات في شدة الصوت ، ويمكن تحديد زمن الذبذبة ، وما إذا كان الصوت مجهوراً أم مهموساً ، ومعرفة التردد الأساس للوترين الصوتيين ، وهذه صورته :
(3) المطياف أو راسم الأطياف Spectrograph
يقدم المطياف ثلاثة أبعاد للموجة الصوتية المرسومة ، وهي : التردد ، والشدة ، والزمن ، وهذا يعين الباحث في معرفة زمن الصوت ، والتردد الأساس ، والشدة ، ويفيد المطياف في دراسة المصوتات ، إذ الفرق الأساسي بين أغلب المصوتات هو فارق طيفي ، وتطورت صناعة المطياف بسرعة وظهرت منه عدة أجيال ، وهي تشترك جميعاً في عرض موجات الصوت الكلامية بأبعادها الثلاثة ، وهذه صورته :
وختم الدكتور منصور الغامدي حديثه عن أجهزة مختبر الصوت بقوله :" الصوتيات علم معملي يعتمد على التجارب التي بدورها تعتمد على معامل مجهزة تجهيزاً حديثاً يواكب التطور العلمي والتقني الذي نعيشه ، وهناك أجهزة تخدم فروع الصوتيات الثلاثة : النطقية والأكوستية(أي:الفيزياوية) والسمعية . فيمكن متابعة حركات الجهاز الصوتي وعضلاته والهواء المنساب داخله ، كما يمكن تسجيل موجات الصوت اللغوية وتحليلها ، إضافة إلى ذلك فإنه يمكن وضع تجارب واستخدام أجهزة دقيقة لمعرفة الكيفية التي تتم بها عمليتي السمع والإدراك، كل هذا الكم من الأجهزة تجعل النتائج التي يخرج بها الباحثون في علم الصوتيات دقيقة لدرجة كبيرة وتتمتع بالثبات والموضوعية".
ومما يؤسف له أن كثيراً من جامعاتنا تفتقر إلى معامل الصوتيات ، لعدم توفر الإمكانات المادية والبشرية المتخصصة ، فالتعامل مع هذه الأجهزة الحديثة يحتاج إلى خبرة وتدريب ، وقد سبقتنا الدول المتقدمة بصناعة هذه الأجهزة وتطويرها واستخدامها في دراسة لغاتهم .
ونحن لا نزال نتجادل عن جدوى هذه الأجهزة ، ويتخوف البعض منا من عاقبة استعمالها في دراسة أصوات العربية وتحليل نصوص القراءات القرآنية ، ويتساءل : ماذا نعمل إذا تعارضت نتائج هذه الأجهزة مع ما هو مقرر في الرواية ، أيهما نقدم الرواية أو ما تأتي به الأجهزة ؟ ويبدو لي أن هذا التساءل نابع من عدم المعرفة بهذه الأجهزة ، لأنها لا تخترع نطقاً جديداً ، وإنما هي تقوم بتحليل ما يقدم لها من مادة صوتية ، شأنها في هذا شأن أجهزة تسجيل الصوت ، التي تعيد ما يقدم لها من مادة ، ولكن قد تكشف الأجهزة خطأً وقع فيه الدارسون في وصف ظاهرة صوتية بالاستناد إلى الملاحظة الذاتية.
وكرر بعض الإخوة المحاورين القول بأنه لا توجد وسيلة للتحقق من صدق ما تأتي به هذه الأجهزة ، والجواب على ذلك سهل ، وهو أن هذه الأجهزة كما قال الدكتور منصور الغامدي : "تجعل النتائج التي يخرج بها الباحثون في علم الصوتيات دقيقة لدرجة كبيرة وتتمتع بالثبات والموضوعية"، فإذا ما أتقن التعامل معها جاءت نتائجها دقيقة ، والتطبيق كفيل ببيان أبعاد هذا القضية ومدى واقعيتها.
وأصبحت لدينا اليوم مجموعة من البحوث والدراسات الصوتية العربية التطبيقية التي استخدمت أجهزة مختبر الصوت الحديثة ، إذا افترضنا أن دراسات الرواد الأوائل لعلم الأصوات العربي لم يتحقق لها ذلك ، ومن أقدم هذه الدراسات كتاب الدكتور سلمان العاني Arabic phonology الذي ترجم إلى العربية بعنوان (التشكيل الصوتي في اللغة العربية) ، ومنها أبحاث الدكتور سمير شريف إستيتية ، وأبحاث تلامذته من طلاب الماجستير والدكتوراه ، وبين يدي كتاب (الخصائص النطقية والفيزيائية للصوامت الرنينية العربية) ، للدكتور فتح الله الصغير ، وهو أطروحته للدكتوراه التي أشرف عليها الدكتور سمير ، وذكر في مقدمتها سبعة أعمال أنجزت بالاعتماد على أجهزة مختبر الصوت ، ومنها مجموعة أبحاث كتبها الدكتور علي يحيى المباركي ، وكتاب التجويد القرآني دراسة صوتية فيزيائية للدكتور محمد صالح الضالع ، وغيرها.
وأختم هذا المقال بالدعوة إلى التكاتف لإنشاء معامل الأصوات، وأن يكون عندنا متخصصون بها، لديهم إلمام بعلم القراءات واللغة العربية، لننتقل من مرحلة نقل حقائق علم الأصوات من كتب الغربيين إلى مرحلة الإبداع والتطوير لهذا العلم بإمكاناتنا الذاتية، ولدينا من تراثنا العلمي رصيد كبير يمكن أن نبني عليه، وأن نصل إلى الريادة في هذا العلم ونجعله في خدمة قراءة القرآن الكريم واللغة العربية ، هدانا الله وإياكم إلى الحق المبين ، وجمعنا وإياكم عليه، آمين.